قال الله تعالى مخبراً عن النفس المطمئنة: {يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية}[الفجر: 27 ـ28] وقال تعالى مخبراً عن صور نفسية أخرى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً}[آل عمران: 30] وقال تعالى: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ لله}[الإنفطار: 19]. وقال تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة}[الأعراف: 205]. وقال تعالى: {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها}[يونس: 108]. وقال تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}[النحل: 11]. وقال تعالى: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي}[يونس: 15]. وقال تعالى: {وإذا النفوس زوجت}[التكوير: 17]. وقال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً}[البقرة: 110] وقال تعالى: {قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا}[الأنعام: 130]. وقال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم}[التوبة: 111]. وقال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}[فصلت: 53].
هذه الآيات القرآنية الكريمة تشير إلى أن الله تعالى قد ذكر النفس مرة بصيغة المؤنث المفرد ومرة بصيغة المخاطب المذكر المفرد وطوراً ورد ذكرها بشكلها المفرد الغائب المذكر وطوراً ذكرها على صورة المفرد الغائب المؤنث وفي حالة نسبها إلى المتكلم المفرد وأحياناً ذكرت بصيغة الجمع المطلق دونما نسبة إلى مخاطب بعينه وأحياناً أخرى وردت على شكل نسبة إلى الجمع المذكر المخاطب ومرات وردت منسوبة إلى المتكلمين جمعاً كما أتت منسوبة إلى جمع الغائبين المذكر وإلى جمع المؤنث الغائبات.
وما ورود النفس بهذه الصيغ المتباينة إلا لحكمة تفرد بها خالق النفس وبارئ الأبدان التي أودع فيها نفوسها وجعلها بهذه النفوس حية وبها تعرف.
وعوداً على بدء نقول إن النفس المطمئنة هي بشارة لها من بارئها وقد أجمع المفسرون ومنهم القرطبي والألوسي على أنها النفس الآمنة من الخوف أو الحزن يوم الهول والحساب في الآخرة بعد يوم القيامة. وقالوا: إن النفس المطمئنة هي النفس الناعمة بروح اليقين والواثقة بفضل الله ونعمته ورحمته وهي المطمئنة إلى ربها وإلى قدره تعالى فهي مطمئنة في السراء والضراء وفي البسط والقبض وفي الشدة والرخاء وفي المنع والعطاء ولا ترتاب ولا تنحرف ولا تتلجلج في الطريق إلى الله تعالى.
إن وحدة النفس من الناحية السيكولوجية أمر متعذر في ضوء تفاعلها مع ضروب الحياة اليومية فهي في كل دهر من دهورها وفي كل عصر من عصورها ترتاب وتخاف وتقلق وتنحرف إلا إذا حباها الله تعالى بعصمة منه وهدى.
إن نفس الإنسان حين يتم بحثها في علم النفس الحديث إنما تبحث في مضمار الدراسة المتعمقة للإنسان بما هو إنسان. ولا بد في هذه الحالة من البدء فيها بأسلوب البحث والتحليل النفسي حتى إذا تسنى الظفر بقدر كاف من المعارف نخضعها حينئذٍ لأسلوب التحليل النفسي المعنوي والعملي وغيرهما.
إن علاقة النفس بالبدن إنما هي علاقة التدبير والتصرف. فإذا ما التوى عودها بان ذلك منها في تصرفات الفرد ولاح في ملامح سلوكه بوضوح. والنفس في أحوالها وجوانبها وجواذبها تكوين عجيب شغلت فكر الإنسان ولم تزل.
قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}[الذاريات: 21].
فالعظات التي تتوافر من التفكير فيها وفي بالغ أمرها كثيرة وكبيرة وعظيمة. كل ذلك حدا بالإنسان لأن يفكر في ماهيتها وجوهرها خلقاً وتكويناً وفعلاً ومصيراً.
فالفيلسوف والطبيب الإسلامي الكبير الملقب بالشيخ الرئيس ابن سينا ينصح الإنسان بأن يقبل على هذه النفس المزينة بكمالها الذاتي فيحرسها عن التلطخ بما يشينها من الهيئات الإنقيادية للنفوس الحيوانية الأمارة بالسوء. والنفس المزينة يكون حالها عند الإنفعال كحالها عند الإنفصال إذ جوهرها غير مشاوب ولا مخالط.
وقد قال ابن سينا في النفس قصيدة تعتبر من أجل قصائده بل قد تكون من أجل القصائد التي قيلت في النفس:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاءُ ذاتُ تعزُّز وتمنع
محجوبةً عن كلّ مقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع
ألفت وما سكنت فلما واصلت
ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهوداً بالحمى
ومنازلاً بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها
عن ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت
بين المعالم والطلول الخضّع
تبكي وقد ذكرت عهوداً بالحمى
بمدامع تهمى ولما تقلع
وتظل ساجحة على الدمن التي
درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها
قفص من الأوج الفسيح المرْبَعِ
حتى إذا قرب المسير من الحمى
ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت محالفةً لكل مخلف
عنها حليف الترب غير مشَيَّع
سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت
ما ليس يُدرك بالعيون الهجع
وغدت تُغرِّد فوق ذروة شاهق
والعلم يرفع كل من لم يرفع
فلأي شيء أهبطت من شاهق
عالٍ إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطه الإله لحكمة
طويت على الفذ اللبيب الأروع
وهبوطها إن كان ضربة لازب
لتكون سامعة بما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية
في العالمين فخرقها لم يرقع
وهي التي قطع الزمان طريقها
حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع